في مواجهة الأمركة
في مواجهة الأمركة
الكتاب: في مواجهة الأمركة
المؤلف: محمد احمد النابلسي
الناشر: دار الفكر – دمشق 2004
أ.د. عبد الفتاح دويدار*
"...نعلم أنكم أيها البرابرة الإنكليز قد حملتم معكم وطورتم عادات وطباع الذئاب واستوليتم على الأمور بالقوة. وفي ما عدا سفنكم القاسية ونيران بنادقكم الوحشية وصواريخكم القوية، ما هي قدراتكم؟".
مقولة صينية من حرب الأفيون
تحت شعار النظام العالمي الجديد ترجمت الولايات المتحدة تفردها كقطب أوحد بإصطناع حرب العراق الأولى أو الخليج الثانية. بما يذكرنا بإصطناعها لقائمة من الحروب السابقة ومنها الحرب الكورية في الخمسينيات. مع فارق الغياب الراهن للاتحاد السوفياتي،بعد سقوطه، مما أتاح للولايات المتحدة جني ثمار حروب ما بعد سقوط الشيوعية دون منازع. وبعده طرح الاميركيون مصطلح العولمة بدلالته الاقتصادية (عولمة إقتصاد السوق الأميركية) بدعم نموذج "النمور الآسيوية" كمثال على الأرباح التي تجنيها الدول النامية إن هي إنخرطت في نظام السوق. وهكذا هرولت دول عديدة نحو العولمة لتكتشف لاحقاً عبثية هذه العولمة والخسارة الناجمة عنها ولكن بعد فوات الأوان. ثم جاءت حجة الدفاع عن القيم الغربية المتجلية في حرب كوسوفو. حيث لم تكن إعتراضات ميلوسوفيتش على شروط السلام الأميركية سوى إعتراضات شكلية. لكن الوسيط أميركي ترجمها رفضاً. بما يعكس نية أميركية مبيتة لإصطناع حرب جديدة. لكن قيادة كلينتون لتلك الحرب كانت أقل صلفاً وتحدياً للمشاعر من سابقه بوش الأب. فقد خاض كلينتون تلك الحرب بدون استخدام اسلحة استراتيجية ليكتفي بصواريخ التوما هوك. وليخرج من تلك الحرب بفائض في الميزانية الأميركية يبلغ 115 مليار دولار. وهو أضاف اليها مكسباً إستراتيجياً من الدرجة الأولى وهو مكسب تعديل استراتيجية الحلف الأطلسي. وهو تعديل حول الحلف من الدفاع الى حق التدخل في المناطق التي توجد فيها مصالح لدول الحلف أي أن نفوذه إمتد الى خارج دوله. هذا التعديل الذي انتزع من الامم المتحدة دور تقرير السماح او عدمه بالتدخلات العسكرية في مناطق محددة في العالم (حددتها اتفاقية التعديل وضمت الشرق الأوسط وشمال افريقيا والقوقاز). بحيث باتت الولايات المتحدة طليقة اليد في تلك المناطق بمجرد اعلانها عن وجود مصالح لها فيها. وابتلع الاوروبيون الطعم بفضل دبلوماسية كلينتون ومرونته. حيث منحهم ضمناً حق التدخل في شمال افريقيا وهي منطقة شديدة الحساسية بالنسبة لأوروبا. إضافة الى ربط التدخل الاميركي بموافقة أطلسية. لكن ووكر بوش ،بذريعة 11 أيلول / الحرب على الإرهاب، تجاوز الامم المتحدة ودول حلف الأطلسي ليشن حربه العراقية غير آبه بكل المعارضات العالمية لتلك الحرب. بما إعتبر إعلاناً صريحاً عن إطلاق مشروع أمركة العالم. حيث تتقدم المصالح الأميركية على كل الإعتبارات. من الامم المتحدة الى الحلف الأطلسي مروراً بالرأي العام العالمي والتكتلات الإقليمية وحتى أصدقاء أميركا السابقين.
لقد أظهرت اميركا بوش جملة إنفجارات هوسية وزعت عدوانيتها في جميع الإتجاهات مطلقة شعار الأمركة. بدلالة الأفضلية العالمية لخدمة المصالح الأميركية على أي إعتبار آخر. حيث مورست العدوانية الأميركية على الأصدقاء مثل فرنسا والمانيا واسبانيا والبرتغال وبريطانيا الحليفة وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي. إضافة للأصدقاء العرب المزمنين مثل السعودية والى روسيا وغيرها. حتى أمكن القول بأن بوش أفقد أميركا أصدقاءها؟!.
الأمركة بهذا المعنى هي فعل إعتداء ناجز ومخالفة صريحة للشرعية الدولية وللأحلاف. وهي بالتالي جريمة فمن هو المستفيد من هذه الجريمة؟. المواطن الأميركي إكتشف فجأة أنه غير آمن (بمناسبة 11 أيلول وعقابيله). وهو يعيش أزمة إقتصادية تهدد مدخراته ورخائه وتعويضات تقاعده وتهديدات عجز في ميزانية بلاده بلغ حدود ال 455 مليار دولار. وبالتالي فإن هذا المواطن غير مستفيد!؟. فمن هو المستفيد إذاً؟.
إنها الشركات الأميركية الكبرى المفلسة منذ نهاية التسعينيات. والتي تحتال منذ ذلك التاريخ على مستثمريها لغاية فضائح إفلاسها عقب زلزال البورصات المصاحب لحوادث 11 أيلول. حيث لم يعد من الممكن التكتم على هذه الإفلاسات فتم إعلانها بصورة تدريجية مدروسة. وأصبح إنقاذها وإنقاذ السوق الأميركية يقتضي جولات من السطو على ثروات الآخرين. وكان النفط العراقي ،والعربي بعده، أسهل عمليات السطو وأسرعها فكانت الحرب العراقية. وهي غير كافية لإنقاذ السوق بما يستدعي إتباعها بجملة عمليات سطو لاحقة في المنطقة (قد لا تكون عسكرية بالضرورة). ومن هنا توزيع التهديدات الأميركية على دول المنطقة بدون إستثناء.
أمام هذا الطابع الجرمي للأمركة حق لنا التساؤل عن سبل مواجهة هذه الأمركة. وهو تساؤل يستند الى مقولة صينية تعود الى زمن حرب الأفيون. وهي تقول: " :"...نعلم أنكم أيها البرابرة الإنكليز قد حملتم معكم وطورتم عادات وطباع الذئاب واستوليتم على الأمور بالقوة. وفي ما عدا سفنكم القاسية ونيران بنادقكم الوحشية وصواريخكم القوية، ما هي قدراتكم؟".
وهي مقولة تستأهل الوقوف عندها بمناسبة الهياج الهوسي الأميركي الراهن. وهي مقولة ترددها بشكل أو بآخر الشعوب المتصررة من الأمركة ومعها فصائل المعارضة العراقية وقسم لابأس به من المنظمات المصنفة إرهابية من قبل أميركا!؟.
حول مواجهة الأمركة وهذه المواضيع المتفرعة عنها صدر عن دار الفكر كتاب بهذا العنوان للباحث اللبناني الدكتور محمد احمد النابلسي. وفيه يقدم إقتراحات فكرية – نظرية لمواجهة الأمركة مستنداً الى مراجعة نقدية - فكرية لمشاريع الأمركة. فهذه المواجهة تقتضي برأي المؤلف وجوب التعرف الدقيق الى تفاصيل هذه المشاريع وخلفياتها وطموحاتها وأدواتها. حيث يجد النابلسي أنه من الضروري أن يضع بين يدي القاريء العربي نصوص هذه المشاريع مترجمة الى العربية. إذ لا يجوز أن يسمع هذا القاريء بمشاريع مثل: تغيير الخارطة العربية وبمشروع الشراكة الأميركية مع الشرق الأوسط (مبادرة باول) ومشروع الحرب الإستباقية التي أرساها بول وولفويتز وتبناها بوش لتصبح "مبدأ بوش" وكذلك فرضية "الحرب الإفتراضية" غير المعروفة على نطاق واسع لكنها كانت فاعلة في حرب العراق. بل أن تلك الحرب كانت أولى تطبيقات هذه الفرضية. التي ينتمي منظروها الى مؤسسة راند حيث يزاملون فيها وولفويتز وكيسينجر وغيرهم. كما لايجوز أن توضع هذه النصوص أمام القاريء العربي بدون قراءة نقدية لها. ومثلها كتب تلعب دوراً هاماً في القرار الأميركي وفي تحرك المخابرات الأميركية في بلادنا. ومنها كتب فوكوياما "نهاية التاريخ" و"نهاية الإنسان" وكتاب ساوندرز المعنون " المخابرات في سوق الثقافة/ من يدفع للمزمرين ". الذي يشرح لنا كيف تقوم المخابرات بتصنيع قادة المجتمع في الدول النامية وفي بلادنا تحديداً. حيث إستندت مبادرة باول على صناعة المخابرات لهؤلاء القادة. كما إستندت الى جماعات المجتمع المدني المصنعة في مختبرات وكالة المخابرات الأميركية.
على أن مواجهة وحش الأمركة بطبعتها البوشية لا تقتصر على إشعال بعض النيران في وجهه (مقاومة شعبية) بل عليها التبصر بإحتمال قيام قطب مواجه لأميركا وتبين ملامح هذا القطب المستقبلي. حيث يجد الباحث أن الصين هي المرشح الوحيد لهذا الدور. مما إقتضى التعريف بسيكولوجية السياسة الصينية وبسلوكها تجاه أزمات السفارة في بلغراد والطائرة الصينية..الخ. ويتوقف أمام إحتمالات بروز الصين وعلاقته بالأزمات الأميركية المعلنة والمتسربة. حيث خطورة هذه الأزمات تبلغ حدود حديث النابلسي عن قدوم زمن الفوضى الأميركي. وملامحه أزمة إقتصادية عارمة (فضائح إفلاس الشركات) وميليشيات نازية (أوكلاهوما 1995) وشغب عنصري (سينسيناتي 2001) وأقليات مضطهدة وحريات مقلصة ومنتهكة ( وزارة بوش للمخابرات) ومخالفات جرمية بحق القانون الدولي (رفض توقيع اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية) ومؤسساته (مخالفة مجلس الأمن في قرار حرب العراق) كما بحق الإنسان.
ولا بد للمؤلف في هذا السياق من مناقشة مشروع بوش وإدارته. الذي قوبل بالتحفظ الشديد في البداية ليتحول الى مشروع إنقاذي بمناسبة حوادث 11 أيلول وذيولها من حروب على الإرهاب. وأخيراً عودة التحفظات على هذا المشروع بعد فشله في إثبات فعاليته وبعد إنفجار المشاكل المترتبة على ثغراته وتسرعه في الحرب العراقية.
وينهي النابلسي كتابه بعرض لمصادمات الأمركة مع الخصوصيات الثقافية. حيث تسجل هذه الأخيرة إنتصارات مؤجلة. فهي تحتوي الأمركة ،والنفوذ الأميركي عامة، في فرنسا وروسيا والمانيا والصين وكوريا وسوريا وافغانستان والعراق وإيران وفلسطين. وهذا الإحتواء لا يتعجل المواجهة لإدراكه فارق تفوق القوة الأميركي الحالي. لذلك فإن هذا الإحتواء يأمل بإبتلاع الوحش الاميركي مع الوقت. حيث لا مكان للمتعجلين قبل انفجار كوارث الاقتصاد الاميركي التي باتت أقرب من التصور بحسب المؤلف.